الدكتور حامد كرهيلا
من الأمراض المستعصية والمتفشية في بلادنا، كالوباء الجارف، عدم وجود قناعات سياسية وإيمان بمبادئ لدى كثير من القيادات السياسية والإطارات الحزبية والنخبة المثقفة، مما أسهم بشكل أساسي في إفساد الحياة السياسية والإدارية في السنوات الأخيرة.
فمنذ عهد الحكم الذاتي عرفت الحياة السياسية القمرية كتلتين سياسيتين رئيستين، تمثلتا في الحزب الأخضر بزعامة الدكتور سيد محمد شيخ، و الحزب الأبيض برئاسة الأمير سيد إبراهيم، وقد توزع القمريون بين هذين الحزبين اللذين تحولا فيما بعد وعلى التوالي إلى حزبي الوحدة والأمة.
وكان هناك إلى جانب هذين الحزبين الحزب الاشتراكي القمري بزعامة محمد علي مباليا، كما ظهر مع بداية الثمنينات من القرن الماضي الجبهة الديمقراطية بزعامة مصطفى سيد شيخ. وخلال العقود الثلاثة، وبالتحديد من الستينات إلى الثمنينات، لم يعرف المجتمع القمري هذه الظاهرة المقلقة اللافتة، التي طرأت على الساحة السياسية، منذ وصول الرئيس الراحل سعيد محمد جوهر إلى الحكم عام 1990 ، والتي تمثلت في بروز تعددية الأحزاب السياسية التي وصلت يومها إلى أكثر من ثلاثين حزبا سياسيا، في بلد لم يتجاوز سكانه ستمائة ألف نسمة، وما صاحب ذلك من ظاهرة “الدعارة السياسية” أي عدم الثبات في حزب واحد والوفاء لمبادئه وأهدافه، بل أصبح الانتقال من حزب إلى آخر بتغيير نظام الحكم أو بمجرد الإقالة من الوزارة أو تغيير الموقع الوظيفي، أمر مألوف، ومقبول، ومستساغ، ولا يخجل منه.
فالانتهازية والوصولية وتغيير المبادئ والقناعات والتسلق إلى المناصب بتغيير المعاطف عملة متداولة في مجتمعنا المعاصر، ولا يعتبر ذلك خيانة في بيت الحزبية. وفي هذا السياق لقد رأيت كما رأى غيري مناضلين سياسيين نشأوا وترعرعوا في مدرسة “الأسيك” ذات التوجهات اليسارية الشيوعية، والتي تحولت لاحقا إلى الجبهة الديمقراطية المذكورة أعلاه، انتقلوا من على متن سفينة هذا الحزب إلى الاتحاد الوطني لأجل الديمقراطية في جزر القمر، ثم تخلوا عنه بعد وفاة الرئيس الراحل محمد تقي عبد الكريم وتولي عثمان غزالي الحكم، إلى الاتفاق لأجل التجديد، الذي استقالوا منه بعد قيام الثورة الخضراء عام 2006 بقيادة الرئيس سامبي، إلى حزب “ريجا” بزعامة المحامي القمري الفرنسي العارف محمد، وبعد أشهر معدودات قضوها في الجهاز التنفيذي لهذا الحزب اقتضت المصلحة مغادرته نهارا جهارا للتسلق بمركب حركة “الباوباب” المؤيدة للرئيس سامبي، عند ما كان ساكنا في بيت السلام، قصر الرئاسة القمرية.
وبينما أنا بصدد كتابة هذه الورقة بلغني أن أولئك الساسة العماليق يعكفون الآن لوضع اللمسات الأخيرة لإنشاء كيان سياسي جديد، قد يرى النور في غضون الأسابيع والأشهر القليلة القادمة، لدعم رئيس الجمهورية الدكتور إكليل ظنين -حفظه الله- الذي لا تنقصه الأحزاب السياسية المؤيدة لسياسته ومكافحته للفساد المالي والإداري المستشري بقوة في أجهزة الدولة وقطاعاتها المختلفة. نعم إن سرعة تغيير القناعات السياسية والتجوال في الأحزاب- كتغيير الملابس الداخلية- وفق المصالح الذاتية والمناطقية والجهوية داء عضال فتاك، يُؤْدِي بحياتنا السياسية، ويسمم نشاطاتنا المجتمعية، ويجهز على تجربتنا الديمقراطية القائمة، على التعددية والتحول الديمقراطي، وتبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع.
كما تؤثر هذه الظاهرة سلبا على صحة وتطور الأحزاب، وعلى دورها كبوتقة لصياغة الأفكار ورسم السياسات والخطط القصيرة والبعيدة المدى للنهوض بالبلاد وتطويرها بعد الوصول إلى دفة الحكم، ولحماية المكتسبات الديمقراطية والحكم الرشيد والمعارضة البناءة في حالة التموقع في المعارضة.
وبما أن مثل هذه الممارسات المستهجنة، التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، ليست صناعة قمرية بامتياز، وإنما عرفتها بعض المجتمعات البشرية الأخرى، أسوق للقارئ العزيز نكتة مصرية هادفة ساخرة ذات صلة مباشرة بمثل هذا الموضوع، «حيث شكى أحد المصريين من تقلب أحد الساسة ما بين أحزاب الوفد والوطني والتيارات الفكرية التي تشكلت في عهد الزعيم سعيد زغلول، فقال الزغلول: إن فلان ليس له مبدأ في حياته، ويغير قناعاته وأفكاره كما يغير ملابسه، فرد عليه زغلول ساخرًا: بالعكس أنا شايف أن الراجل ده صاحب فكر نظيف دائما، لأنه بيغير أفكاره عشان متتمسخش .